عيون الصحراء : ذ عبد الرحمان كريم
لو عدنا إلى ما قبل الفايسبوك لانبهرنا أمام المفهوم الحقيقي للعلم والإبداع والثقافة رغم قساوة ظروف العمل ورغم انشغال الناس بالقطاع الفلاحي وتربية المواشي ورغم ارتفاع نسبة الأمية , وتفشي الامراض والاوبئة ...,كانت مشاكل الناس وحاجياتهم ومشاغلهم كثيرة ورغم ذلك كانوا ينهمون العلم تحت إضاءات خافتة للشموع والفوانيس والقناديل الزيتية,فكانوا يجبرون أنفسهم ويكبلون ذواتهم في رحاب الكتب والمكتبات, فكُتبت ثقافتهم على الأوراق وكُتبت ثقافتنا على الزجاج.

القدامى يمتلكون أدمـــغــة تطحن الصلب والحديد ويمتحون من كل فن طرف ويوسعون مداركهم بقراءة مئآت الكتب والروايات الطوال رغبة منهم في الإدراك والتحصيل, فكتبوا الملاحم والحكايات والأساطير الخالدة والمقامات وبرعوا في الرسائل والخطب فبقيت أعمالهم شاهدة اليوم على عصرهم الزاهر, بقيت حية فوق بساطها منتشرة في كل المجالات لم يطويها الزمان ولـــم تنساها الأذهان تلوح كباقي الوشم على ظاهر اليد لكونها تتكلم من خارج زمانها وتفتح مسافة تأويلية طويلة بينها وبين المتلقي مما جعلها تقاوم الزمن, آتية من المستقبل تعج بالرموز والإيحاءات والدلالات... ,صارت هذه الأعمال مصادر ومراجع بل صارت عجائب تذهل الفايسبوكيين الحالييين وتعبر عن زمن ماض يتسم بالتناغم والانسجام وعدم الانقطاع.
اليوم احترف الجميع اللعب بالأزرار والكتابة على الصفحات والجدران العنكبوتية ,صار التناغم اليوم تشظيا وتشتــتتا, صار الجميع في يومنا هذا شاعـــرا وروائيا وقصاصا وصحافيا بالتقلـــيد, بالاستهلاك والاعتماد على الجاهز بالضغط على كلمة( مشاركة) لتزيين الجدران الشخصية .

صفحاتنا على الفايسبوك مليئة بالأزياء والسيارات والوجبات والحفلات والواجهات....
هدفنا الوحيد السخرية والكوميديا والضحك في الوقت الذي شمرت فيه الأمم على سواعدها لضخ دماء التقدم والتطور في شعوبها وأبنائها.
لم يعد منا من يشتم رائحة الورق ولامن يزور نجارا ليصنع دولابا للكتب , لم يعد منا من يمسك الكتاب بين يديه حتى يطرق النوم باب جـــفونه إلا من رحم ربي, لأننا نعيش في زمن مشتت كما أشار المفكر عبد الله العروي في
كتابه الإيديـــولوجيا , هذا الزمـــان الذي يـركز فية الإنسان على لحيظة برقية عابرة لايهـــمه قبلها ولا بعدها وإنما يعيش لحظـته القصيرة العابرة ليكتفي بلمجة ثقافية شادرة أو فطور ثقافي خفيف لا يسمن ولا يغني من جوع.

صحيح أننا نكتب الشعــر والقصة والمسرحية والمقالة, لكن هجرنا القصائد الطوال على حساب الشدرة وهجرنا الروايـة على حساب القصة القصــيرة جدا, كتبنا الخواطر واليوميات ...لكن هذه الثقافة تبقى فيسبوكية, ثقافــة لا تخرج عن كونها سريرا بروكستيا تزيد القامات القصــيرة طولا والشخــــصيات الضغيفة قوة مزمنة وذلك بتلطيخ الجدران بنصوص وكلمات تافهة تأخذ منا وقتا طويلا نقضيه أمام شاشة الحاسوب حتى تحجرت عقولنا وتخشبت ....التقنية إضافة وليست انسلاخا تاما عن الثقافة والهوية.

صحيح أننا نعيش فــترة ساخنة تعالت فيها الشعارات, مليئة بالغضب والثورات والكتـــابات على الجـــدران الحـــقيقــية وتلطيخـــها بالدمــــــاء سعـــيا وراء الديمقراطيـــة والحريـــة كما هو الشأن حاليا في مصر وسورياولبنان...لذا شتان بين جدرانـــنا(الفايسبوك) وجـدران هؤلاء , لاتستحق منا هذه الجدران مانسجله عليها ولاتستحق منا ولو وقتا قصيرا من وقتنا النفيس, لأنهاجدران وهمية آيلة للسقوط ,فأناملنا وسواعدنا قوية يجب أن نبحث لها عن جدار صامدة ذات أساس صحيح عوض أن نمرن أناملنا على رياضة الفايسبوك بالضغط على الأزرار لأضحك بمتوالية من الهاءات أو بالضغط على كلمة(أعجبني) لأرضي صديقي .
فلنعد إلى رماد التثقيف والقراءة لننفخ فيه جميعا لعل شعلة تبزغ منه لنضيء ونستضيء, عوض أن نبقى مكتوفي الأيدي أمام فرن الفايسبوك الذي شب ناره في كل مكان وعمت أمواجه كل الأعمار والأجناس , فأصبح الكل غارقا وهائما في الرموز والسخرية والدعايات والاشمئزاز من الواقع . الفايسبوك مرايا نرى فيها ذواتنا في غير صورها . ما أحوجنا إلى الفكاك من هذا الفخ الواسع الذي تقع فيه الجماعات والأفراد ليؤجج النفوس العليلة ويزلزل النفوس العفيفة ويسحب البساط من تحت المبدعين والمثقفين.
إذا لم تكن كاتبا تفيد غيرك كن على الأقل قارئا لتفيد نفسك.
